السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
الحمد لله الذي خلّص قلوب عباده المتقين من ظُلْم الشهوات ، وأخلص عقولهم عن ظُلَم الشبهات
أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة ، وبراهين عظمته القاهرة ، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله
واغترف من بحر جوده وأفضاله وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرضين والسماوات ، شهادة تقود قائلها إلى الجنات
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، والمبعوث إلى كافة البريات ، بالآيات المعجزات
والمنعوت بأشرف الخلال الزاكيات صلى الله عليه وعلى آله الأئمة الهداة ، وأصحابه الفضلاء الثقات
وعلى أتباعهم بإحسان ، وسلم كثيرا
***********************************************
أما بعد :
اهلا بكم اخوانى اعضاء ومشرفى ومحبى هذا المنتدى العظيم :
السؤال:
ما مدى صحة الحديث القائل: "المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" [رواه مسلم في صحيحه]؟ وإن كان صحيحًا فما معناه؟ وفي أي شيء تكون القوة؟
الجواب:
الحديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه، ومعناه: أن المؤمن القوي في إيمانه، والقوي في بدنه وعمله خيرٌ من المؤمن الضعيف في إيمانه أو الضعيف في بدنه وعمله، لأن المؤمن القوي ينتج ويعمل للمسلمين وينتفع المسلمون بقوته البدنية وبقوته الإيمانية وبقوته العملية ينتفعون من ذلك نفعًا عظيمًا في الجهاد في سبيل الله، وفي تحقيق مصالح المسلمين، وفي الدفاع عن الإسلام والمسلمين، وإذلال الأعداء والوقوف في وجوههم، وهذا ما لا يملكه المؤمن الضعيف، فمن هذا الوجه كان المؤمن القوي خيرًا من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فالإيمان كله خير المؤمن الضعيف فيه خير، ولكن المؤمن القوي أكثر خيرًا منه لنفسه ولدينه ولإخوانه المسلمين، فهذا فيه الحث على القوة، ودين الإسلام هو دين القوة ودين العزة ودين الرفعة دائمًا وأبدًا يطلب من المسلمين القوة، قال الله سبحانه وتعالى {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [سورة الأنفال: آية 60]، وقال تعالى: {ولِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة المنافقون: آية 8]، وقال تعالى: {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران: آية 139]، فالقوة مطلوبة في الإسلام: القوة في الإيمان والعقيدة، والقوة في العمل، والقوة في الأبدان، لأن هذا ينتج خيرًا للمسلمين.
الشيخ :
صالح بن فوزان الفوزان
------------------
:::فضل المؤمن القوي ::
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان ) أخرجه مسلم.
الشرح:
نعم هذا الحديث: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ولا تقل لو أني عملت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله "
"قدر" خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا قدر الله، " قدر الله وما شاء فعل "
وهذا الحديث فيه فوائد عظيمة:
أولا: قوله "احرص" يقال: احرِص واحرَص، سمِع يسمَع، ويقال: احرص من حرَص يحرِص بالكسر، احرِص أو احرَص على ما ينفعك ولا تعجز، أو أنه "لا تعجزن".
"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف " هذا في فضل المؤمن القوي، والقوة المراد بها هنا قوة العزيمة، قوة الإيمان الصدق الباطن، أن يدعو إلى أن يعمل وهذا هو المؤمن القوي، وقوة المؤمن في قلبه، وقوة المنافق في بدنه؛ ولهذا ترى كثيرا ممن قد يكون بلغ من السن شيئا كثيرا كبير السن، ومع ذلك ترى همته ونشاطه في عبادة الله -عز وجل- ويأتي إلى المسجد من مكان بعيد، ويعمل الأعمال الصالحة، ويحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويحافظ على السنن، مع كبر سنه، وترى مثلا إنسانا مصحح البدن شابا قويا لا يعمل مثل عمل هذا بل قد لا يبلغ شيئا يسيرا من عمله؛ وذلك أن هذا قوة عمله قوته في قلبه، وهذا ربما ضعف قلبه وإن كان بدنه قويا.
وإن كان أيضا أن قوة البدن مطلوبة، وأن الحديث يظهر والله أعلم أن المراد به الأمران:
قوة العزيمة
و
قوة القلب،
وقوة البدن تابعة، حتى يجعل قوة بدنه فيما يرضي الله -عز وجل-؛ ولهذا جاء مدح القوة في كثير من المواضع، كما أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح حينما كانوا صائمين، فقال: " أفطروا فإن الفطر أقوى لكم على عدوكم .
فأمرهم بالفطر، والمراد به أن يتقووا بالفطر وتقوى أبدانهم على العمل.
حديث في الصحيحين حينما أفطروا، صام من صام وأفطر من أفطر، فالذين أفطروا سقوا الركاب وأقاموا الأبنية، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: " ذهب المفطرون اليوم بالأجر " لأنهم لما أفطروا قويت أبدانهم فنشطوا في العمل، فذهبوا بالأجر في ذلك اليوم، والصوام ناموا لأن الصوم أضعفهم، فالقوة مطلوبة في البدن. وإن كان المراد بالحديث هنا قوة العزيمة والقلب.
"خير وأحب" هذا يبين أن أهل الإيمان أن مراتبهم منه - سبحانه وتعالى- مختلفة، منهم من هو محبة الله تختلف، من تكون محبته أعظم من غيره، وهذا دلالة على اختلاف مراتب الإيمان، فمن كان إيمانه قويا كانت محبته لله، ومحبة الله له أقوى "خير وأحب" وفيه إثبات المحبة لله -عز وجل- "يحبهم ويحبونه" وهذا محل اتفاق من أهل العلم، في محبة الله -عز وجل- وفي قوة الإيمان وزيادته.
"من المؤمن الضعيف" الذي ضعف إيمانه وهذا قد يؤيد قول من قال: إن المراد هنا القوة قوة القلب لا قوة البدن، قال: المؤمن الضعيف، ولا شك أنه المراد بالشق الثاني هو الضعيف ضعيف القصد والعزيمة لا ضعيف البدن؛ ولهذا تقدم أن ضعيف البدن قد يكون أقوى وأفضل وأحب من قوي البدن، لكن هو مراد من جهة العموم إذا كان سائرا في القصد الأعظم وهو قوة الإيمان يجعل في سبيل مرضاة الله -عز وجل-.
"وفي كلٍ خير" هذا لأجل دفع ما يظن أن المؤمن الضعيف ليس فيه خير، لا. فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أوتي جوامع الكلم، فيدفع التوهمات الباطلة، قال: وفي كل خير، يعني من المؤمن الضعيف والمؤمن القوي، لكن بين أن الخير في المؤمن القوي أتم وأكمل.
"احرص" أمر وهذه وصية منه -عليه الصلاة والسلام-، أمر، وما من طريق يقرب للجنة إلا وقد دلنا عليه -صلوات الله وسلامه عليه- ولا طريق يقرب للنار إلا حذرنا منه، "احرص" الحرص هو الهمة والاجتهاد"على ما ينفعك" وهذه كما قال ابن القيم -رحمه الله-: أصل سعادة الإنسان الحرص وعدم العجز: " احرص على ما ينفعك ولا تعجز " تعجَز أفصح من تعجِز ولذا: " أعَجَزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ " وإن كان يجوز تعجِز، لكن تعجَز أفصح.
"احرص على ما ينفعك ولا تعجزن -أو ولا تعجز- " وهذا كما تقدم هو أصل سعادة الإنسان، وهو حرصه على ما ينفعه واستعانته بالله -عز وجل- وعدم العجز، والإنسان لا قوة له ولا حول إلا بالله -عز وجل-، لا حول ولا قوة إلا بالله، " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " فمن عمل بحوله فهو مخذول وعمله لا قيمة له.
"احرص" العمل جوارحك تجد وتعمل، لكن قلبك معلق بالله -عز وجل- وهذا هو حقيقة التوكل، الجمع بين قوة اليقين والصدق والتوكل وقوة العمل بالجوارح، وهذان هما ركنا التوكل، فمن فرط في واحد منهما فحصل له شيء فلا يلومن إلا نفسه "احرص على ما ينفعك" هذا عام في أمور دينه ودنياه.
وأعظم الحرص هو الحرص على ما ينفع عند الله -عز وجل- وذلك باتخاذ الأسباب الشرعية المشروعة، وهي أعظم الأسباب المنجية، والعمل بالأسباب من أعظم التوكل بالأسباب الشرعية والأسباب الحسية، المشروعة والمباحة.
"واستعن بالله" وهذان الأمران وهما: الحرص والاستعانة قرينان لا ينفصلان، ومن عمل بالحرص والاستعانة فإنه موفق مسدد ولو حصل ما حصل؛ لأنه بذل الجهد والوسع، وبعد ذلك لا عتب عليه.
"ولا تعجز" يعني أمر بالحرص مع أن مفهومه النهي عن العجز، لكن مع ذلك الناصح الأمين -صلوات الله وسلامه عليه- صرح بهذا المفهوم ولم يسكت عنه، ولا تعجز لأنه ربما يحرص تارة ويضعف تارة، فأمره أن يجد وأن يحرص في جميع أموره، ولا تعجزن ولا تعجز.
"وإن أصابك شيء فلا تقل " وهذا بعد ما اجتهد في السبب فلا يقول ، والمكلف من عموم المكلفين من الرجال والنساء يكتنفه أمران: قبل المقدور وبعد المقدور، قبل المقدور: وهو العمل يحرص ويجتهد مع صدق التوكل على الله، هذا قبل حصول المقدور وقبل العمل فيما يريد أن يعمله في جميع أموره.
ثم بعد ذلك بعد المقدور إياه أن ينكث هذا العمل وذاك التوكل؛ يقول: لا ، لو أني فعلت كذا، لو أنني صنعت هذا الشيء لما حصل كذا، عند ذلك يفتح باب الشيطان. وإن أصابك شيء -بعد ذلك- فلا تقل -نهي- لو أني فعلت كان كذا وكذا" وعند ذلك يتحسر ويأتيه الشيطان.
"ولكن قل قدر الله -هذا قدر الله- وما شاء فعل - سبحانه وتعالى- " وأمره نافذ، ولهذا ( لو ) في هذا الموطن منهي عنها، لأنها تفتح باب اللوم والتلوم والتسخط للقدر وعدم الرضا عن الله، وهذا أمر لا يجوز، والواجب حينما يجتهد ثم ينزل ما ينزل؛ فإنه يقول: قدر الله وما شاء فعل؛ ولهذا من فعل هذا فإنه ينزل عليه برد الإيمان واليقين، وربما كان الأمر الذي يكرهه خيرا من الأمر الذي يحبه.
يقول عمر : "وجدنا خير عيشنا بالصبر" ويقول هو أو غيره: "ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر" ولهذا يقول بعض السلف: واعلم أن ما يصيبك فيما تكرهه من الله -يعني مما لا حيلة لك فيه- خير مما يصيبك أو مما يحصل لك مما تحبه، لأن النفس عند المصيبة يحصل لها ذلٌّ وانكسار، وهذا مشاهد، كم من إنسان قادته مصيبة إلى نعم عظيمة، ثم حينما يقع فيها وكان كارها لها ثم بعد ذلك يلجأ إليه - سبحانه وتعالى- وينطرح وينكسر يسوق الله له - سبحانه وتعالى- من الخير والأنس واللذة ربما كره زوال هذه المصيبة.
ولهذا هذا هو مقام الشكر، لكنه مقام عالٍ "وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ " ومقام الرضا يليه، ومقام الصبر واجب، مقام الصبر كونه يكره، لكن ليس معنى ذلك أنه لا يحب زوالها، يحب زوال المصيبة وإن كرهها هذا لا عتب لكن لا يتسخط، لا يتسخط، وهذا قد يسيء بعض الناس يظن أن إرادة زوالها نوع من غير الرضا؛ لا. أو نوع من التسخط، التسخط شيء بالقول والفعل كونه يحب زوالها هذا لا بأس به لأن مقام الصبر هو الواجب.
ومقام الرضا هو أن يرضى بها، فلا يكره ولا يحب، لكن مقام الشكر هو محبتها؛ بمعنى أن ما أصابه مما لم يكن عيبا إنما مصيبة أصابته في نفسه أو في ماله أو في أهله أو في بدنه فإنه حينما يكون شاكرا لله -عز وجل- هذا مقام الشكر، وهو أعلى المقامات كما تقدم.
ولهذا نهى عن "لو" لكن يجوز من "لو" وهنا بحث كثير لأهل العلم في هذه المسألة وأنه يجوز من الـ"لو" فيما يكون تمنيا لخير أو طلبا له، وقد تكاثرت بذلك الأخبار عن النبي -عليه الصلاة والسلام-
شرح فضل المؤمن القوي (من شرح كتاب بلوغ المرام )
للشيخ : عبد المحسن بن عبد الله
الحمد لله الذي خلّص قلوب عباده المتقين من ظُلْم الشهوات ، وأخلص عقولهم عن ظُلَم الشبهات
أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة ، وبراهين عظمته القاهرة ، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله
واغترف من بحر جوده وأفضاله وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرضين والسماوات ، شهادة تقود قائلها إلى الجنات
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، والمبعوث إلى كافة البريات ، بالآيات المعجزات
والمنعوت بأشرف الخلال الزاكيات صلى الله عليه وعلى آله الأئمة الهداة ، وأصحابه الفضلاء الثقات
وعلى أتباعهم بإحسان ، وسلم كثيرا
***********************************************
أما بعد :
اهلا بكم اخوانى اعضاء ومشرفى ومحبى هذا المنتدى العظيم :
السؤال:
ما مدى صحة الحديث القائل: "المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" [رواه مسلم في صحيحه]؟ وإن كان صحيحًا فما معناه؟ وفي أي شيء تكون القوة؟
الجواب:
الحديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه، ومعناه: أن المؤمن القوي في إيمانه، والقوي في بدنه وعمله خيرٌ من المؤمن الضعيف في إيمانه أو الضعيف في بدنه وعمله، لأن المؤمن القوي ينتج ويعمل للمسلمين وينتفع المسلمون بقوته البدنية وبقوته الإيمانية وبقوته العملية ينتفعون من ذلك نفعًا عظيمًا في الجهاد في سبيل الله، وفي تحقيق مصالح المسلمين، وفي الدفاع عن الإسلام والمسلمين، وإذلال الأعداء والوقوف في وجوههم، وهذا ما لا يملكه المؤمن الضعيف، فمن هذا الوجه كان المؤمن القوي خيرًا من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فالإيمان كله خير المؤمن الضعيف فيه خير، ولكن المؤمن القوي أكثر خيرًا منه لنفسه ولدينه ولإخوانه المسلمين، فهذا فيه الحث على القوة، ودين الإسلام هو دين القوة ودين العزة ودين الرفعة دائمًا وأبدًا يطلب من المسلمين القوة، قال الله سبحانه وتعالى {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [سورة الأنفال: آية 60]، وقال تعالى: {ولِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة المنافقون: آية 8]، وقال تعالى: {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران: آية 139]، فالقوة مطلوبة في الإسلام: القوة في الإيمان والعقيدة، والقوة في العمل، والقوة في الأبدان، لأن هذا ينتج خيرًا للمسلمين.
الشيخ :
صالح بن فوزان الفوزان
------------------
:::فضل المؤمن القوي ::
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان ) أخرجه مسلم.
الشرح:
نعم هذا الحديث: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ولا تقل لو أني عملت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله "
"قدر" خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا قدر الله، " قدر الله وما شاء فعل "
وهذا الحديث فيه فوائد عظيمة:
أولا: قوله "احرص" يقال: احرِص واحرَص، سمِع يسمَع، ويقال: احرص من حرَص يحرِص بالكسر، احرِص أو احرَص على ما ينفعك ولا تعجز، أو أنه "لا تعجزن".
"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف " هذا في فضل المؤمن القوي، والقوة المراد بها هنا قوة العزيمة، قوة الإيمان الصدق الباطن، أن يدعو إلى أن يعمل وهذا هو المؤمن القوي، وقوة المؤمن في قلبه، وقوة المنافق في بدنه؛ ولهذا ترى كثيرا ممن قد يكون بلغ من السن شيئا كثيرا كبير السن، ومع ذلك ترى همته ونشاطه في عبادة الله -عز وجل- ويأتي إلى المسجد من مكان بعيد، ويعمل الأعمال الصالحة، ويحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويحافظ على السنن، مع كبر سنه، وترى مثلا إنسانا مصحح البدن شابا قويا لا يعمل مثل عمل هذا بل قد لا يبلغ شيئا يسيرا من عمله؛ وذلك أن هذا قوة عمله قوته في قلبه، وهذا ربما ضعف قلبه وإن كان بدنه قويا.
وإن كان أيضا أن قوة البدن مطلوبة، وأن الحديث يظهر والله أعلم أن المراد به الأمران:
قوة العزيمة
و
قوة القلب،
وقوة البدن تابعة، حتى يجعل قوة بدنه فيما يرضي الله -عز وجل-؛ ولهذا جاء مدح القوة في كثير من المواضع، كما أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح حينما كانوا صائمين، فقال: " أفطروا فإن الفطر أقوى لكم على عدوكم .
فأمرهم بالفطر، والمراد به أن يتقووا بالفطر وتقوى أبدانهم على العمل.
حديث في الصحيحين حينما أفطروا، صام من صام وأفطر من أفطر، فالذين أفطروا سقوا الركاب وأقاموا الأبنية، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: " ذهب المفطرون اليوم بالأجر " لأنهم لما أفطروا قويت أبدانهم فنشطوا في العمل، فذهبوا بالأجر في ذلك اليوم، والصوام ناموا لأن الصوم أضعفهم، فالقوة مطلوبة في البدن. وإن كان المراد بالحديث هنا قوة العزيمة والقلب.
"خير وأحب" هذا يبين أن أهل الإيمان أن مراتبهم منه - سبحانه وتعالى- مختلفة، منهم من هو محبة الله تختلف، من تكون محبته أعظم من غيره، وهذا دلالة على اختلاف مراتب الإيمان، فمن كان إيمانه قويا كانت محبته لله، ومحبة الله له أقوى "خير وأحب" وفيه إثبات المحبة لله -عز وجل- "يحبهم ويحبونه" وهذا محل اتفاق من أهل العلم، في محبة الله -عز وجل- وفي قوة الإيمان وزيادته.
"من المؤمن الضعيف" الذي ضعف إيمانه وهذا قد يؤيد قول من قال: إن المراد هنا القوة قوة القلب لا قوة البدن، قال: المؤمن الضعيف، ولا شك أنه المراد بالشق الثاني هو الضعيف ضعيف القصد والعزيمة لا ضعيف البدن؛ ولهذا تقدم أن ضعيف البدن قد يكون أقوى وأفضل وأحب من قوي البدن، لكن هو مراد من جهة العموم إذا كان سائرا في القصد الأعظم وهو قوة الإيمان يجعل في سبيل مرضاة الله -عز وجل-.
"وفي كلٍ خير" هذا لأجل دفع ما يظن أن المؤمن الضعيف ليس فيه خير، لا. فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أوتي جوامع الكلم، فيدفع التوهمات الباطلة، قال: وفي كل خير، يعني من المؤمن الضعيف والمؤمن القوي، لكن بين أن الخير في المؤمن القوي أتم وأكمل.
"احرص" أمر وهذه وصية منه -عليه الصلاة والسلام-، أمر، وما من طريق يقرب للجنة إلا وقد دلنا عليه -صلوات الله وسلامه عليه- ولا طريق يقرب للنار إلا حذرنا منه، "احرص" الحرص هو الهمة والاجتهاد"على ما ينفعك" وهذه كما قال ابن القيم -رحمه الله-: أصل سعادة الإنسان الحرص وعدم العجز: " احرص على ما ينفعك ولا تعجز " تعجَز أفصح من تعجِز ولذا: " أعَجَزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ " وإن كان يجوز تعجِز، لكن تعجَز أفصح.
"احرص على ما ينفعك ولا تعجزن -أو ولا تعجز- " وهذا كما تقدم هو أصل سعادة الإنسان، وهو حرصه على ما ينفعه واستعانته بالله -عز وجل- وعدم العجز، والإنسان لا قوة له ولا حول إلا بالله -عز وجل-، لا حول ولا قوة إلا بالله، " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " فمن عمل بحوله فهو مخذول وعمله لا قيمة له.
"احرص" العمل جوارحك تجد وتعمل، لكن قلبك معلق بالله -عز وجل- وهذا هو حقيقة التوكل، الجمع بين قوة اليقين والصدق والتوكل وقوة العمل بالجوارح، وهذان هما ركنا التوكل، فمن فرط في واحد منهما فحصل له شيء فلا يلومن إلا نفسه "احرص على ما ينفعك" هذا عام في أمور دينه ودنياه.
وأعظم الحرص هو الحرص على ما ينفع عند الله -عز وجل- وذلك باتخاذ الأسباب الشرعية المشروعة، وهي أعظم الأسباب المنجية، والعمل بالأسباب من أعظم التوكل بالأسباب الشرعية والأسباب الحسية، المشروعة والمباحة.
"واستعن بالله" وهذان الأمران وهما: الحرص والاستعانة قرينان لا ينفصلان، ومن عمل بالحرص والاستعانة فإنه موفق مسدد ولو حصل ما حصل؛ لأنه بذل الجهد والوسع، وبعد ذلك لا عتب عليه.
"ولا تعجز" يعني أمر بالحرص مع أن مفهومه النهي عن العجز، لكن مع ذلك الناصح الأمين -صلوات الله وسلامه عليه- صرح بهذا المفهوم ولم يسكت عنه، ولا تعجز لأنه ربما يحرص تارة ويضعف تارة، فأمره أن يجد وأن يحرص في جميع أموره، ولا تعجزن ولا تعجز.
"وإن أصابك شيء فلا تقل " وهذا بعد ما اجتهد في السبب فلا يقول ، والمكلف من عموم المكلفين من الرجال والنساء يكتنفه أمران: قبل المقدور وبعد المقدور، قبل المقدور: وهو العمل يحرص ويجتهد مع صدق التوكل على الله، هذا قبل حصول المقدور وقبل العمل فيما يريد أن يعمله في جميع أموره.
ثم بعد ذلك بعد المقدور إياه أن ينكث هذا العمل وذاك التوكل؛ يقول: لا ، لو أني فعلت كذا، لو أنني صنعت هذا الشيء لما حصل كذا، عند ذلك يفتح باب الشيطان. وإن أصابك شيء -بعد ذلك- فلا تقل -نهي- لو أني فعلت كان كذا وكذا" وعند ذلك يتحسر ويأتيه الشيطان.
"ولكن قل قدر الله -هذا قدر الله- وما شاء فعل - سبحانه وتعالى- " وأمره نافذ، ولهذا ( لو ) في هذا الموطن منهي عنها، لأنها تفتح باب اللوم والتلوم والتسخط للقدر وعدم الرضا عن الله، وهذا أمر لا يجوز، والواجب حينما يجتهد ثم ينزل ما ينزل؛ فإنه يقول: قدر الله وما شاء فعل؛ ولهذا من فعل هذا فإنه ينزل عليه برد الإيمان واليقين، وربما كان الأمر الذي يكرهه خيرا من الأمر الذي يحبه.
يقول عمر : "وجدنا خير عيشنا بالصبر" ويقول هو أو غيره: "ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر" ولهذا يقول بعض السلف: واعلم أن ما يصيبك فيما تكرهه من الله -يعني مما لا حيلة لك فيه- خير مما يصيبك أو مما يحصل لك مما تحبه، لأن النفس عند المصيبة يحصل لها ذلٌّ وانكسار، وهذا مشاهد، كم من إنسان قادته مصيبة إلى نعم عظيمة، ثم حينما يقع فيها وكان كارها لها ثم بعد ذلك يلجأ إليه - سبحانه وتعالى- وينطرح وينكسر يسوق الله له - سبحانه وتعالى- من الخير والأنس واللذة ربما كره زوال هذه المصيبة.
ولهذا هذا هو مقام الشكر، لكنه مقام عالٍ "وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ " ومقام الرضا يليه، ومقام الصبر واجب، مقام الصبر كونه يكره، لكن ليس معنى ذلك أنه لا يحب زوالها، يحب زوال المصيبة وإن كرهها هذا لا عتب لكن لا يتسخط، لا يتسخط، وهذا قد يسيء بعض الناس يظن أن إرادة زوالها نوع من غير الرضا؛ لا. أو نوع من التسخط، التسخط شيء بالقول والفعل كونه يحب زوالها هذا لا بأس به لأن مقام الصبر هو الواجب.
ومقام الرضا هو أن يرضى بها، فلا يكره ولا يحب، لكن مقام الشكر هو محبتها؛ بمعنى أن ما أصابه مما لم يكن عيبا إنما مصيبة أصابته في نفسه أو في ماله أو في أهله أو في بدنه فإنه حينما يكون شاكرا لله -عز وجل- هذا مقام الشكر، وهو أعلى المقامات كما تقدم.
ولهذا نهى عن "لو" لكن يجوز من "لو" وهنا بحث كثير لأهل العلم في هذه المسألة وأنه يجوز من الـ"لو" فيما يكون تمنيا لخير أو طلبا له، وقد تكاثرت بذلك الأخبار عن النبي -عليه الصلاة والسلام-
شرح فضل المؤمن القوي (من شرح كتاب بلوغ المرام )
للشيخ : عبد المحسن بن عبد الله